الرئيسية » 2014 » مايو » 24 » الانسان والعقل............9
5:53 PM
الانسان والعقل............9

 لم يكن فكر الإنسان مرتكزا في البحث عن سره فقط أو عن سر عقله وقواه . بل كـان بـحـث الإنسان في كل شيء يراه أو يسمعه أو يشعر ، به وفكر في ما وراء كل شعوره وبحـث عــن خالقه . والإنسان لا يبحث عن خالقه بحثا عميقا إلا بعد أن يشعر أن قـواه مــحــدودة وأنــه لا يملك شيئا لنفسه وأن الموت يجعل له حدا مهما كانت معرفته . ومــعــرفة الإنــسـان أساســها شعوره ، وخالق الإنسان خارج كل حواس الإنسان أو قوى الطبيعة ، ولم يكن الخالــق نــورا يرى ، أو قوة محركة تدرك بالشعور أو باللاشعور ، فإن اللاشعور شعور مــدرك بالــعــقــل ويمكن استخراج معالمه إلى الحواس ، فيصبح شيئا مدركا مفهوما . وهذا الحال نجـده عــنــد الشعراء الذين يصابون بغيبوبة فيستخرجون معالم اللاشعور إلى أبيات شعرية يعجز تــفكـير الإنسان أن ينسق مضمونها في حالة عادية ، واعتمد الكثير بتطبيق أصول تؤدي إلى غيبوبـة تامة ، ظنا أن بقوة اللاشعور، قد يتمكن الإنسان من إدراك الخالق والوصول إليه أو الاتصال به ، وما كانت رؤيا الذين قولوا إنهم رأوا الخالق إلا صورة تشخيصية للخالق فــي قــوة مــا، إما بشرية أو قوة محركة طبيعية . والحديث في هذا الميدان أساسه ومنطلقه تفســيــر ديــنــي لتدعيم محتواه ، والدليل في ذلك يبقى إيمانا بالغيب وليس شرطا في ظهور الخالق . والـمـراد من القول هو أن نفهم أن العقل بإمكانه السيطرة على قوى الإنسان ، فيكتشف الإنسان معرفـة أساسها صوري وليس حقيقيا ، وبإمكان الإنسان أن يدخل أجواء في الفـضاء أو حــجــبا فــي الأرض وليس لها واقع إنما صورة لواقع إما بعيد أو محجوب عن إدراك الإنـسان ، فــهــناك خيال خيالي وواقع خيالي ، وخيال واقعي ، وواقع واقعي ، والعقل بإمكانه إدراك هذه العوالم كلها ولا يميز الإنسان بينها لاختلاطها . فالخيال الخيالي مثله كمن يحلم فيتخيل الأشياء بــقوة الخيال فيكون ما يتصوره واضحا أكثر من الصور بالخيال المجرد . والواقع الخيالي ، فمثاله كمن كان في حلم ثم اختلط الحلم بالواقع فلم يميز هل المشــهــد كــان حلــما أم واقــعا عاشــه الإنسان ، وفي هذا الحال يكون الخيال كأنه واقع يعيشه ، كما قال كثير أنــهــم دخـلوا الجــنـة وهــو فــي الأرض ، فالدرجة الصورية للخيال تفوقت عن قوى الخيال بالـخـيال ، فأصــبــح ذلــك واقــعا وهميا . وهناك الخيال الواقعي ومثاله أن يكون الإنسان قد عاش واقعا وظن بعد ذلك أنه كـان في حلم .  

فالقوة الواقعية تغلبت في تلك الحال على القوة الخيالية فأصبحت خيالا واقعــيا ، أما الــواقــع الواقعي فهو أصل الأشياء وأصل المعرفة ، ومن أدرك الواقع الواقعي ، فقد بلغ إلــى الــعلــم الأصلي للأشياء فلا يكون لديه اختلاط في عوالم العقل ولا إدراك وهمي ويصــبـح ســعــيــه وبحثه نحو الحقيقة شيئا واضحا

  لن يتضح للإنسان لن يتضح للإنسان واقع الأشياء حتى يتخلص من مبادىء غير ثابـتـة قــد تعلق بها إحساسه ، ودليل ذلك تألمه عند فقدان كثير من الأشياء التي ليس لها أهمية ، إلا مـن الناحية المادية ، ومن أجل الوصول إلى أصول المعرفة لابد للإنسان أن يعرف ما عُرف مـن معرفة ، وأن يكون قابلا لتغيير ما عرفه وتشبث به إذا تبين له شك أو عــدم وجــود دلــيــل ،

                                                                                                                   وليس دليل المعرفة هو المعجزة ، بل هو أن يدرك الإنسان أنه لا يعرف ، وأنه وجب علـيه أن يتعلم ، وما يتعلمه الإنسان فغير مستقر ، لأن التعلم ما هو إلا طريق نحو المــعــرفـة . إن المعرفة يمكن أن يكون فيها أخطاء كما أن رؤيا الإنسان قد تخونه فنـجد أن مــن كان تــحــت فعالية مخدر قوي قد يرى الأشياء حوله بعيدة أو كبيرة الحجم على غير أساس أصلـها ، كــما أن قوى الطبيعة لها فعالية على حواس الإنسان وقادرة على تغييـر مــفــهــومــه وإدراكــه أو تصرفاته . ففي بعض الأماكن يجد الإنسان راحة ، وفي أخرى نجده قلقا ، كما يــرتــاح إلــى بعض الناس وينفر من آخرين لوجود قوى تقابلية ، بين الأشخاص وبين الأشياء ، وقد تكــون مضادة لبعضها . 

  بحث الكثير من سر تقابل القوى وانسجامها لاستخدامها ، ولكن الناس لن يتفقوا على مــبـدإ أصلي ، واختلاف آراء الإنسان جعل اختلاط القوى الطبيعية واختلاف طبيعــتــه ، للإنــسان طبيعة خلق عليها وله طبائع طبع بها في حياته ، وتلك أساسها من متطلباته أو من البيئة التـي يعيشها . 

  نجد كثيرا من الناس إذا بدلوا موطنهم تبدلت أحوالهم إما إلى ميزة حسنة أو إلى سوء خلق ، واعتمد القدماء على الترحال والأسفار حتى يتمكنوا أولا من معرفة أشـياء كــثــيــرة ، وفــي الأخير يختارون مكان استقرارهم لتوافق طبيعتهم وقواهم مع قوى وطبيعــة الــمــكان الــذي اختاروه .

  لابد للإنسان أن يجول في الأرض ويعرف مواطنها ، فالمناطق الجبلية لها قوة غير الــقــوة الكامنة في المناطق الصحراوية ، وكل منهما له مرتبة وأهمية . وللتجوال أثر وفعالية ســواء في التربية أو في المعرفة ، والعقل لتوسيع إدراكه لابد من تبديل إحساس الـجــســم تــبــديــلا مستمرا ومرتبا ،ولابد من العلم لبلوغ كل هدف ،ولابد من المعرفة للسير في طريق كل علم، يتقلب الإنسان في أحوال وينقلب من حال إلى حال كأن قواه لها تــرحال في كــل الأحــوال ، تتقلب قوى العقل في نفسها ، ونجد للدماغ نورا يتقلب في ألوانه كما تتقلب الحرباء وكثير من الحيوانات على حسب الأماكن التي توجد فيها ، والعلماء حديثا جعلوا آلات واكتشفوا أن جسم الإنسان يحيط به نورا له ألوان مختلفة ، وهذا عرف قديما ، إنما الإنسان لا يقتنع إلا إذا توفر لديه دليل مادي كآلة ، وتكون في متناول الجميع ، لأن البحث بواسطة العقل يتطلب مــجهودا كبيرا ، وله شروط كثيرة ، منها الاستقامة ، والمعرفة بواسطة الآلات لا تغني الإنسان شيئا ، لأنه لن يكتسب منها قوة بل معرفة فقط واطلاعا ، وحتى لو تمكن الإنسان من تغيــيــر قــواه بالآلات فلن تكون مستقرة إذا تلزمها طاقة متوالية لأجل فعاليتها . أما القوة التي تكــمــن فــي الإنسان بنفسه تبقى له إن كانت لها حقيقة ، وتضمحل إن كان أصلها من موارد طبيعية للقوى التي تضمحل ، ومن جملتها القوة التي يجلبها الإنسان بقواه العقلية من الحيـوانات كــلــها . إذ يمكن للعقل أن يدرك هذه القوى بع اتصال بها ويستغلها الإنسان فتصبح حالة إدراك معالــمه خاضعة لتلك القوة ، ونجده على الصفة التي استغل قــواها مثــل حــيــوان هادىء أو وحــش مفترس ، واستعملت هذه الطرق في رياضات كثيرة كان هدفها القدرة على الحروب

                                                                                                                 وليكن مبدأ للعلم من أجل معرفة الحقيقة للأشياء والإنسان

  قد يعتقد الإنسان أن بعقله يمكنه تمييز الخطأ والصواب معتمدا على إدراكه ، فإن قبل عقــله شيئا يرى فيه الصواب ، وإن لم يقبله يرى في ذلك الخطأ ، ولا يمكن للعقل أن يـمــيــز بــيـن الأشياء والمعرفة إلا بوسيلة علم ، فإن كان ما تعلمه الإنسان خــطأ ، فــقــد يــرى الإنــســان الصواب في الخطأ أو الخطأ في الصواب ، ولو كان الإنسان بواسطة العقــل دون الــعلــم أن يعرف الحقيقة لكان الطفل أول من يدرك معاني الأشياء وأساسها ، ولكن لا يمكــن ذلــك لأن عقل الطفل مازالت معالمه في حالة ركود متأهبة للمعرفة ، ولولا ما يعرفه الإنسان لما أمكنه الإدراك ، فالطفل قواه العقلية تكون مترابطة مع بعضها دون انفصال المعالم عن المــعالــم ، فالمعالم أساسها المعرفة والتفكير ، أما العوالم فأساسها الصور والتفكير الصوري ، والتفكيـر الصوري يختلف عن الخيال لأن تفكير بواسطة الصور فيتم الفهم والإدراك . أما الخيال فـهو صور فكرية ، فيعيش الإنسان عالما صوريا تأتي بعده الأفكار ، ثم إن القدماء كانوا يعتمدون على كثير من معرفتهم بملاحظة الطفل وحركاته لأن العقل في تلك الفترة يكون على صبـغـة فطرة . وقد اكتشفوا أن عقل الطفل لا يكون في حالة ركود كاملة لأن العقل يمكنه أن يكتشـف ما يحيط به من أشياء ويدركها قبل الحواس ، فكان للعقل إدراك قبل إدراك الإنسان بواسـطـة الحواس ، واتجه الكثير نحو البحث عن وسائل إدراك دون تدخل الحواس ، واستعملت طرق كثيرة لأجل هذا الغرض ، وذلك بإرغام الحواس أن تكون حالة ركود ، بينما العقل يكون فـي حالة حركة مستمرة في نفسه ، ولكن الإنسان لم يدرك بهذه الطرق ما وراء قوى الطبيــعــة ، وكان التنفس وتوازنه مع تركيزه هو أساس هذه الطرق . وحقا إن للتنفس طاقة كبيرة يــنــفق منها الجسم ، وإذا تم توازنه فقد توجيه قوى العقل وتركيزها نحو هدف معين .   

والتنفس المتوازن يعطي راحة للجسم بكامله وللدماغ بصفة خاصة ، لأنه مركز كل الحـواس ، كما أن التنفس يخفف عن الإنسان الحزن والقلق وضغط التفكير ، فإن للتفكير ضغطا قويا ، وقوة التفكير هي التي تؤدي إلى مساوىء كثيرة ، وقد تخدر الحواس وتجعل الجسم في حـالـة سيئة لاسيما إذا كان التفكير متقلبا في قواه . والحكماء فضلوا التفكير في أحوالهم ومشاكلـهــم في حالة جلوس حتى لا يكون اضطراب في التفكير وانفعال في قوى الجــســم ، كــما أنــهــم يجتنبون التفكير عند النوم وكذلك الكلام . وكل هذا يتعلق بأسس تربية النــفــس والــتــخــلــق بالأخلاق المثالية للإنسان ، وللعقل نصبه في هذا إذ يتم خلاصه . وخلاص العقل من ســجـنه هو الأهم لا خلاص الروح كما اعتقد الكثير لأن الروح ليست مسجـونة فــي شــيء ، ويــتــم خلاص العقل بمجرد خلاص قواه كلها من كل ما لا يفيد الإنسان في شيء . والتحكم الحقيقي للعقل هو أن يتحكم الإنسان في نفسه ومعرفة النفس في أحوالها ونزواتها شيء واجــب علـى الإنسان ، ولا يمكن التطرق في الحديث عن النفس لأنه آخر أساسه معرفة النفس .

  ومعرفة النفس منقسمة إلى علم النفس ، ومعناها العلم الكامل عن خلقت الإنسان ثم إلى عـلم عن النفس وهو علم عن الإنسان في طبائعها وعقدها ، ولا يمكـن الخلط بينهما لاختـلافــهــما 

                                                                                                                  اختلافا كاملا . والباحث المدعم بأصول دين لابد أن يكون في اختــلاف مــع باحــث أســاس معرفته ناتج عن تجارب أو ملاحظة ، كما لا يمكن المقارنة بين مــعــرفــة الــناس لأن كــلا وطريقه ، وطرق البحث كثيرة لكن الاستنتاج الحقيقي واحد مهما كانت سبيــل الــمــعــرفــة، والعاقل ينصب لكل كلام حتى يتبين صحة اعتقاده بعلم أساسي للمعرفة .

  إن الباحث عن الحقيقة ، لابد أن يكون وصفه سلوكا سليما أمام كل معرفة ، ولا يمكــنـه أن يتقلد بالجدل كسيف حاد يضرب به كل كلام ، فقد يخطىء ويقطع أصول علم عن نــفــســه ، وواجب كل متحدث عن علم أن يفرض معرفته بإجبار الاعتقاد ، والتنبيه مع الإعـانــة علــى طرح الأسئلة كانت أجمل طريقة للتعليم ، وعلى المتعلم الاجتهاد لبلوغ مراده ، وبالاجــتــهاد يدرك الإنسان طريق الصواب لا بمجرد الاعتقاد فقط .

  إن طرق التعليم مختلفة ولها أهداف معينة ، ولكن وسيلة التعليم وطـريــقـة لابــد أن تكــون محكمة ، وهدفها البحث عن الحقيقة أو جمع المعرفة ، فالتعليم الجماعي في فعاليته مختــلـف عن التعليم الفردي ، والمعلم لابد أن يمتاز بمعرفة علم التفكير وطرق الإدراك العقلي ، فـقــد نجد تلميذا في المدرسة لم يفهم ما قاله المعلم ، ولكن يفهمه من التلاميذ ، كما قد يكون عــكس هذا في التعليم الجماعي . أما في التعليم الفردي ، فلابد أن يكون المعلم قادرا علـى الاتــصال بصباه لكي يعلم الطفل ، وهذا يكون لا شعوريا ، فنجد المعلم يسعى إلى تربية الـطــفــل ولــو بطرق بهلوانية ، وهذا من اختصاص الباحث عن علم التفكير وطرق الإدراك العقلــي ، إنـما المراد من القول تبيين قوة أخرى من قوى العقل ، وهي أن العقل قد يعطي إدراكا للإنــسان ، في وقت حاضر متصل بوقت ماض ، كما ظهر في شأن المعلم الذي يرجع قوى صــباه مــن أجل التعليم . وهذا شيء حاضر بالعقل وماض في وقته . وقد ينسى الإنسان شيئا قــد مــضى كما قد يفكر في شيء هو آت ، رغم أنه يعيش في وقت حاضر ، والسبــب فــي هــذا هــو أن العقل ليس له وقت ساجن له ، كما هو الإنسان ؛ يمضي الليل والنهار ، ومـع مــرور الــزمن فالعقل بقواه قد يرجع للإنسان ذكرى قد مضت ، ولكن كأنهــا كانــت فــي وقــت تــذكــرها ، والذاكرة هي التي لها ترتيب واضح في قواها . ويمكنها تمييز الوقت بالضــبط ، والــجــســم يمكنه الانفعال عند تذكر شيء مؤلم أو الارتياح عند تذكر شيء مفرح وسار ، وفاقد الــذاكرة لا يذكر شيئا لأنها مرتبة لإدراك الوقت والأشياء ، فالعقل قواه ، الماضي عندها حاضر كــما قد يكون الحاضر شيئا غائبا إذا لم يدركه الإنسان في وقته .  

  يعرف الإنسان مرور الوقت والزمن بإدراكه تقلب الليل والنهار ، ولو وقفت الطبيعة كـلــها في حركتها المستمرة ، لما كان إدراك الوقت الإنسان من إدراك الركود الزمـنــي بــواســطة العقل ، ولذا نجد كثيرا من الناس لم يشعروا بمرور الزمن في فترات كثيـرة من أوقــاتــهــم . للعقل قوة حالتها ركود دائم لا إدراك فيها لشيء وكل الأفكار تضمحل إذا وصلـت إلــى تلــك النقطة ، كما تضمحل الصور ، فيكون النسيان المطبق . ولا يمكن تذكر ما نــســي فــي هــذه

                                                                                                                 الحالة . وسميت عند الهنود بالنار الأفقية ، ويرسمونها فوق الرأس وكأنــها تــحــرق كــل ما يصل إليها ، وقد سعوا على البلوغ إلى هذه المرتبة للاتصال بقوى الاضــمــحلال الــجـسمي ومعرفة الاضمحلال الطبيعي أو وقته ، ولذا جعلوا النار المقدسة لديهم في الهند وقولــهم لأن تلك النار إذا انطفأت قد يكون الاضمحلال الطبيعي . والاضمحلال الطبيعي لا يمكن معــرفة وقته بمجرد معرفة قوى الطبيعة ، لأن قوى الاضمحلال حالتها ركـود تــام لا يــدرك بــقــوة الإدراك كما تدرك الأشياء المنسية والتي دخلت إلى قوى نقطة الركود العقلي . والاضمحلال الجسمي لا يمكن أيضا ، لأن قوة الروح قد تجمع قوى الحياة للجسم ، والجسم يجمع قواه ويتم التحاق العقل بالجسم في تلك الحال . والإنسان عند ولادته وجد جسمه بقوى الروح والــحــياة أعطي العقل والحواس ، بعد ذلك ، ثم التفكير والإدراك الحسي . والمثل بالقول أن الإنسان لا يمكنه سكنى مكان إلا بودود نوع من المسكن . وأعطى القدماء للنار رمزا للروح ، وحركتها رمزا للحياة ، وحرارتها رمزا لفعالية الأشياء ، ولكن الروح قوتها فوق قوة الاضــمحــلال ، ونسبت معرفتها إلى علم غيبي عن إدراك الإنسان .   

أعطي للماء عند القدماء ميزة خاصة ، واعتبر أنه رمز القوى المجهولة عند الإنسان ، وأنــه أساس كل شيء حي . وقد بحث الإنسان عن قوة الماء واستعملها بواسطة العقل لاستغـلالــها أو للتوصل إلى فهم مصدر الحياة ، ولكن الماء هو نفسه مما في الطبيعة وأسـاس كــل شــيء حي فيها . ولا يمكن بقواه إدراك ما وراء الطبيعة أو مصدر حياتها الحقيـقــي . وكــل شــيء جماد في الطبيعة يصبح حيا إذا دخلت عليه قوة الحياة أو قوى العقل الفعال ، إذ العقل الفــعال هو الذي يتمكن الإنسان بواسطته أن يحرك أشياء جامدة ، كما هو الشأن في قلب الحبال إلــى أفاع ، تبدو صوريا بالرؤيا ، وحقيقتها أن لا حياة فيها . وقد اختلف القـول والــحــديــث عــن المعرفة المكتسبة من العلوم الباطنية عن العقل الفعال ودوره . ولكــن مــعــرفــة كــل واحــد كانــت مميزة في مرتبة ما ، ولم تكن في الدرجة الأخيرة من درجات العقل ، أو من مراتـبــه أو من عوالمه ومعالمه . ولو بقي الذين تكلموا عن العقل الفعال أحياء إلى أن يبلغوا الـدرجــة الثامنة من قوى العقل ، لقالوا غير ما قالوه في الأول ، ولعرفوا الناس أن العــقــل لــم يــكــن إدراكه بعيدا كما رأوه بعيدا ، بل هو الذي تكمن فيه قوى العقل وتجتمع فيه وحوله وتــخــرج منه وتدخل  إليه . وأنه دائرة حول وقى الحواس ، بينما العقل نفسه هو البعيد كل البعــد عــن إدراك العقل الفعال ، والعلوم التي تكتسب بقوى العقل الفعال هي معرفة عن القوة الإشعاعيـة التي بها يتم تقلب الأشياء ، ولا يمكن لأي قوة من قوى الإنسان أن تبعـث الحــياة فــي شــيء جامد . وكل شيء موجود ولو جامد فوجوده حياة ، إلا أن حياته ليس لديها حركـة كـحــركــة الأشياء الحية ، وم هذا المنطلق فكر القدماء في قلب القوى الطبيعية وإرجاع الشـيء الــحــي جامدا ، واستعملت طرق خاصة لأجل هذا الغرض . وكانت النتيجة أنه حـتى ولــو تــمــكــن الإنسان من ذلك ، فإن الشيء الحي المنقلب جمادا يبدو كذلك صوريا ، والحـياة تــبــقــى بــه تتحرك في نفسها دون أن تبدو حياتها ، وتظهر كما كان الشيء الجامد يصبح حيا ، ولكــن لا حياة فيه ، وخلاصة القول في هذا أنه قوة من قوى الخيال الواقعي الظاهــري للإنــسان كــما يتخيل للإنسان منزل فيدخل 

                                                                                                                  فيه ويتحدث مع أهله ، وفي الواقع الواقعي الظاهري لا نجد لذلك المنزل وجــودا ، وعــلــى أساس هذه المعرفة فكر الكثير من البالغين في معرفة القوى الباطنية وعلومها أن العالم كــلـه ما هو إلا مجرد خيال واقعي ظاهري ، كما أن الإنسان نفسه اعتبر كائـنا خــيالــيا وجــوديا ، ووجوده في عالم خيالي واقعي ظاهري في عالم الخيال الوجودي . وفي المنطلق الديـني أنــه لا يمكن أن يوجد الإنسان في عالم حقيقي أصلي ليفسد فيه ، ثم يعتبر المفسد أنه تمــكــن مــن إفساد في ملك الخالق . بل خلق الإنسان في الحياة الدنيا ، وما كان لها إلا صورة من الجــنة ، كما توجد شبه جنة على الأرض كأنها باطنية للواقع الظاهري بالنسبة للإنسان الموجـود فــي هذه الأرض ، والأرض الشبه الجنة يعيش فيها الإنسان المؤمن . ولابد من جعل الفرق بـيــن المعرفة المجردة وبين المعرفة التي لها أصل ديني ، إلا أن الباحث الجاد قــد يــلــتــقــي مــع الأصول الدينية للمعرفة في كل معرفة . كما أن الدين يـســمى ديــنا إذا كــان أصل علــومــه مصدره كتاب منزل ، وكل فكرة أو معرفة أخرى ولو تطورت تسمى عقيدة يعـتقــد الإنــسان أنها صالحة في أساسها . وكل هذا لابد للإنسان أن يدركه بعقله ويفكر فيه ، مهما أن العــقــل أسس إدراكه بالنسبة للعالم الفكري .

مشاهده: 688 | أضاف: بدرالشريف2550 | الترتيب: 0.0/0
مجموع التعليقات: 0
الاسم *:
Email *:
كود *: